اللغة العربيّة في النظام الصهيونيّ – قصّة قناع استعماريّ | مقدّمة

أ ف ب

 

"اللغة العربيّة في النظام الصهيونيّ – قصّة قناع استعماريّ"، عنوان كتاب جديد لإسماعيل ناشف، صدر حديثًا عن "المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات". يقع الكتاب في 272 صفحة من القطع المتوسّط، ويتكوّن من مقدّمة و4 فصول وخاتمة، عناوينها: الفائض والقهريّ – "العربيّة"؛ إنشاء "العربيّة": بدايات بنيويّة وسلاسل من الأحداث الأدبيّة؛ الوسيط في "العربيّة": قناع المحاكاة الاستعماريّ؛ وتحرير الإجراء: "العربيّة" في أيدي الخبراء الفلسطينيّين.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مقدّمة الكتاب بإذن من مؤلّفه.

*****

 

إنّ التاريخ الاجتماعيّ للغة العربيّة ومنتجاتها في النظام الصهيونيّ، أحد المحاور الأكثر أهمّيّة/ دلالة في السياق الاستعماريّ، الّذي تطوّر في فلسطين الانتدابيّة في القرن العشرين. قصّة هذا التاريخ، الّتي لمّا تنتهِ بعد، تتشكّل بقوّة ودراميّة تميّز حروب اللغات في العصر الحديث. وليس من المفهوم الضمنيّ عرض قصّة أحداث تاريخ اللغة العربيّة ومنتجاتها خلال عمليّة تدفّقها، من دون إغفال التنبيه إلى أنّ أسلوب عرضها - أيضًا - ليس معطًى مسبقًا؛ وهنا يكمن الإغراء في هذا البحث؛ في فحص الأحداث على محور الزمن المتدفّق، حيث يقود هذا الأداء البحثيّ نحو استشراف إمكانيّات الفهم وحدودها، يضاف إلى هذا أنّ هذه القصّة تتميّز بمبناها المفتوح؛ فهي لا تؤدّي إلى إغلاق شكلانيّ، بل تصف النظام الاستعماريّ حدثًا اتّصاليًّا مؤسّسًا. من هذه المنطلقات، يثار السؤال حول موقع الراوي/ الباحث بعلاقته بالقصّة، وكيف يبنيها لتكون قصّة بحثيّة قابلة للتداول.

 

يتّفق الباحثون في اللغة العربيّة ومتحدّثوها في العالم العربيّ، على قضيّة مركزيّة واحدة: اللغة العربيّة هي الحلبة الأساسيّة، الّتي يجري فيها بناء هُويّات متحدّثيها في الفترة الحديثة. إنّ هذا الموقع المفصليّ للغة العربيّة أدّى إلى استقطابها لقوًى اجتماعيّة - اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة، حاولت من جانبها حسم تناقضات اجتماعيّة مختلفة، لم تنبع من أمور لغويّة "داخليّة" صِرفة. تجسّد تاريخ هذه الصراعات في مبنى اللغة العربيّة وطرائق استخدامها وتراكم؛ ليصبح عملًا مُشَيّأً (Objectified Labor)، حسب منطق اللغة العربيّة ذاتها؛ على سبيل المثال، في العربيّة المحكيّة من الممكن نسب لهجات محدّدة إلى الطبقات الاجتماعيّة الاقتصاديّة، في تقاطعها مع التصنيف ريف/ مدينة. من هذا الجانب، اللغة العربيّة حقل خصب للبحث العلميّ؛ ذلك أنّ هذه الحلبة المَعيشة تحمل التاريخ الاجتماعيّ الخاصّ بالمجتمعات العربيّة، بطريقة هي أكثر ميلًا إلى التناظر (Overdetermination)؛ أي علاقات بنيويّة عابرة الزمان والمكان، تأخذ شكلًا محدّدًا حسب السياق الّذي يفعّلها، مثال ذلك العلاقات بين العربيّتين المحكيّة والفصحى، الّتي يعود تاريخها إلى مرحلة تأصيل الفصحى والتقعيد لها، في الصورة الّتي استمرّت إلى يومنا هذا.

شكّلت اللغة العربيّة ومنتجاتها - ولا تزال - في سياق النظام الصهيونيّ، كما في الأنظمة الاستعماريّة الأخرى في العالم العربيّ، شكّلت حلبة ديناميّة للقوى الاجتماعيّة - الاقتصاديّة والسياسيّة العاملة فيه. وحدّد الانشغال باللغة العربيّة منذ عام 1948، حلبة بنيويّة تَحدث فيها صراعات، تُبنى هُويّات وأخرى تُفكّك، تُصقل تركيبات جديدة، وتُقوّى القائمة، وتُهدم أخرى. من وجهة نظر إسرائيل الّتي بادرت إلى إقامة هذه الحلبة، فإنّ وظيفتها الأساسيّة كانت موقعًا لبناء الشخصيّة الفرديّة والجماعيّة للفلسطينيّين الّذين أصبحوا مواطنيها؛ أي بناء هُويّة "العربيّ الإسرائيليّ". وبغية أن تعمل هذه الحلبة كما يجب؛ تطلّبَ هذا من أجهزة الدولة، ومن القوى الاجتماعيّة الفلسطينيّة العاملة فيها، أن يترجموا قوّتهم إلى شكل محدّد من اللغة العربيّة ومنتجاتها. إنّ خطوة الترجمة ليست مفهومة ضمنيًّا، ولم تكن معطاة في جسد اللغة ذاته. لقد رسمت أجهزة الدولة ملامح الحلبة وحدودها، وكان على الفلسطينيّين قبول هذه التحديدات، طوعًا أو كرهًا، لكن من أجل إعادة بناء اللغة العربيّة ومنتجاتها، بطريقة تعبّر عن موقف قوّة اجتماعيّة سياسيّة ما، ثمّة ضرورة لإحاطة معمّقة باللغة العربيّة وتاريخها المتشعّب والثريّ، ثمّ إنّ إعادة البناء هذه مبدأ ناظم، خطاب يفهمه الفلسطينيّون في إسرائيل، ويمكّن من بناء أحداث اتّصاليّة موجّهة إليهم، وقد وُجدت هذه الشروط لبناء الحلبة البنيويّة للغة العربيّة ومنتجاتها، في تلك اللحظة الفاصلة مع نهاية حرب عام 1948، لكنّها لم تنبع من أحداث الحرب ذاتها، وإنّما بُنيت في مستويات الواقع الاستعماريّ المختلفة منذ بداية القرن العشرين؛ إذ لم تكن آنذاك تعمل بالضرورة بالمستوى البنيويّ، المنظّم لمجال أو حقل اجتماعيّ منفصل، وذي قاعدة مادّيّة - مؤسّساتيّة واضحة.

إنّ الافتراض الأساسيّ للبحث هو أنّ أشكال الكتابة والقراءة، هي الجهاز الّذي يترجِم القوى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة إلى اللغة العربيّة ومنتجاتها؛ فهي الّتي تصوغ القوّة الاجتماعيّة، على شكل نصّيّ عامّ قابل للتداول في صفوف جمهور القرّاء الفلسطينيّ.

 

مثلما يُبيّن الكثير من الدراسات الجديدة، بشأن تاريخ اللغة العربيّة في فترة الاستيطان الصهيونيّ الّتي سبقت عام 1948، كان في أوساط الحركة الصهيونيّة أنموذج أوّليّ للحلبة، الّتي نحاول تحديدها بالمستويين المادّيّ - المؤسّساتيّ والمبدأ الناظم؛ مثلًا، أُسّس في عام 1926 "معهد الدراسات الشرقيّة" في "الجامعة العبريّة"، وتخرّج فيه الكثير من المتخصّصين في اللغة العربيّة ومنتجاتها، ممّن انخرطوا في مؤسّسات الحركة الصهيونيّة، واستمرّ قسم منهم في العمل في هذا المجال بعد تأسيس دولة إسرائيل. وكان التعبير النصّيّ العلنيّ الأوّل عن هذه العمليّات جريدة حقيقة الأمر، الّتي أصدرتها "نقابة العمّال الصهيونيّة - الهستدروت" عام 1937، وهي جريدة باللغة العربيّة، موجّهة إلى جمهور القرّاء الفلسطينيّ. أمّا من الجانب الفلسطينيّ، فكان الإنتاج النصّيّ في المجال العامّ في اللغة العربيّة، جزءًا من النهضة القوميّة العربيّة الفلسطينيّة. ويتبيّن من الدراسات الّتي صدرت مؤخّرًا، أنّ الفترة الواقعة بين الحرب العالميّة الأولى وحرب عام 1948، تميّزت بوجود حقل منفصل للغة العربيّة ومنتجاتها في المجتمع الفلسطينيّ، واشتمل هذا الحقل على صحف ومجلّات، وأدب وشعر، ودور نشر، وجمهور قرّاء، ضمن مؤسّسات ونشاطات أخرى. واستمرّ بعض المثقّفين الّذين نشطوا في هذه الفترة، بالمستوى الفلسطينيّ وبمستوى العالم العربيّ عامّة، في العمل في هذا المجال بعد قيام دولة إسرائيل، ولعلّ أبرز مثال على ذلك هم أولئك المثقّفون الفلسطينيّون، الّذين عملوا في صحيفة الاتّحاد قبل عام 1948، واستمرّوا في العمل فيها، وفي المجلّات الّتي أصدرها "الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ"، في بداية خمسينات القرن الماضي. وأدّت نتائج نكبة عام 1948، وتأسيس أجهزة الدولة حلبة اللغة العربيّة البنيويّة، إلى التقاء مؤسّسات الحركة الصهيونيّة من فترة الانتداب البريطانيّ وهؤلاء المثقّفين الفلسطينيّين.

على الرغم من أنّ الفترة الّتي سبقت نكبة عام 1948، ليست ضمن بؤرة اهتمام هذا البحث؛ فإنّ التاريخ الاجتماعيّ للغة العربيّة ومنتجاتها من تلك الفترة، يشكّل طبقة مهمّة في عمليّات تأسيس الحلبة البنيويّة، الّتي حصلت بعد تأسيس دولة إسرائيل. يفحص البحث إعادة تكوّن هذا التاريخ، في الحلبة الّتي أفردتها دولة إسرائيل للفلسطينيّين، الّذين أصبحوا مواطنين فيها؛ فالهدف الأساسيّ للبحث تقصّي مبنى هذه الحلبة، وفهم طرائق عملها في الفترة الممتدّة من عام 1948 حتّى يومنا هذا. هذه الحلبة البنيويّة تنتج نوعًا محدّدًا من النصوص، في المجال العامّ في اللغة العربيّة الموجّهة إلى جمهور قرّاء محدّد؛ مجموعة الفلسطينيّين في إسرائيل. يتمحور البحث حول أشكال كتابة هذه النصوص وقراءتها؛ ذلك أنّ الكتابة والقراءة ممارسات تنبع من وكالة اجتماعيّة، تصارع على هيئة أو شكل العلاقات بين الفلسطينيّين في إسرائيل كجماعة ودولة إسرائيل، حيث تشكّل الأولى جزءًا مركزيًّا فيها من جهة، وبينها وبين النظام الصهيونيّ من جهة أخرى أعمّ. إنّ الافتراض الأساسيّ للبحث هو أنّ أشكال الكتابة والقراءة، هي الجهاز الّذي يترجِم القوى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة إلى اللغة العربيّة ومنتجاتها؛ فهي الّتي تصوغ القوّة الاجتماعيّة، على شكل نصّيّ عامّ قابل للتداول في صفوف جمهور القرّاء الفلسطينيّ. أمّا النصّ في لحظة نشره فيصبح قوّة اجتماعيّة بذاته، يعمل وفق قوانين داخليّة خاصّة به، وفعل كتابته وقراءته هو إعادة صوغ للذات الفلسطينيّة الكاتبة والقارئة على السواء. وعلى الرغم من أنّ هذه الحركة تُعرَض أحيانًا على أنّها خطّيّة، وهي ليست كذلك؛ فإنّ هذه حركة متواصلة تتحرّك في اتّجاهات عدّة في الوقت ذاته، وهدفنا هنا استخلاص أنماطها وأشكالها.

في هذا البحث، لن نتطرّق إلى العلاقة بين الشكل القوميّ "علاقة النظام الصهيونيّ باليهود"، والشكل الاستعماريّ "علاقته بالفلسطينيّين" لهذا المشروع، إلّا في الحالات الّتي قد تسهم فيها هذه العلاقة، في توضيح بعض جوانب البحث.

 

ما لا شكّ فيه، أنّ دراسة التاريخ الاجتماعيّ للغة العربيّة ومنتجاتها في دولة إسرائيل، شكل من أشكال دراسة السياق الاستعماريّ، الّذي يعيشه الفلسطينيّون في إسرائيل؛ لذلك فإنّ قصّ تاريخ النظام الاجتماعيّ في فلسطين الانتدابيّة، بوساطة قصّ تاريخ اللغة العربيّة ومنتجاتها، خطوة تعتمد على إطار تحليليّ بشأن ماهيّة هذا النظام الاجتماعيّ. إنّ الحقل البحثيّ مشبع بالأدبيّات بشأن ماهيّة هذا النظام، والمواقف منوّعة ومختلفة، حتّى أنّنا نشكّ في وجود حقل بحثيّ، يعاني هذه الدرجة من الاستقطاب والاختلاف في تعريف النظام السائد. وإذا رجعنا إلى موقع القاصّ في عمليّة بناء هذه القصّة البحثيّة، فلا بدّ لنا من أن نوضّح إطاره التحليليّ ذا الصلة بهذا البحث، وأساسًا بشأن النظام الاجتماعيّ السياسيّ، وعلاقته بمجموعة الفلسطينيّين مواطني إسرائيل. وبخلاف توجّهات نظريّة أخرى، سأدّعي أنّ النظام الاجتماعيّ السياسيّ ذاته، يستطيع أن يتعامل مع مجموعات سكّانيّة مختلفة تحت سيطرته، بحسب مبادئ عمل مختلفة، وقد تكون أحيانًا متناقضة. وفي حالتنا هنا، تتعامل دولة إسرائيل، من خلال أجهزتها، مع مواطنيها الفلسطينيّين، بطريقة مختلفة عمّا تتعامل به مع اليهود الأشكناز واليهود العرب. ودولة إسرائيل ليست استثناء في هذا الموضوع؛ فهذا لا يتعدّى كونه تعبيرًا عن المشروع القوميّ الحداثيّ، بوصفه مشروعًا استعماريًّا يحمل محورًا عنصريًّا بارزًا في تركيبته. في هذا البحث، لن نتطرّق إلى العلاقة بين الشكل القوميّ "علاقة النظام الصهيونيّ باليهود"، والشكل الاستعماريّ "علاقته بالفلسطينيّين" لهذا المشروع، إلّا في الحالات الّتي قد تسهم فيها هذه العلاقة، في توضيح بعض جوانب البحث.

 

أوّلًا: الفلسطينيّون في إسرائيل

ما نوعيّة العلاقات بين دولة إسرائيل وجماعة الفلسطينيّين مواطنيها؟ على الرغم من توفّر أدبيّات عدّة تتناول هذا الموضوع، فإنّ هذا السؤال ليس ترفًا، بل على العكس من ذلك، يبدو أنّ الثراء في الأدبيّات البحثيّة هو ما يدعو إلى فحص هذه العلاقات، بحسب سؤال بحثنا هذا. إنّ اللغة العربيّة ومنتجاتها علامة الهُويّة الوطنيّة الفلسطينيّة لدى الفلسطينيّين، وفي الوقت ذاته الأرضيّة الّتي تقف عليها هذه الهُويّة. ونتج هذا الوضع المركّب من تاريخ اللغة العربيّة ومواقعها في انبناء الشعوب العربيّة في الفترة الحديثة، ومن تفكيك البنية التحتيّة المادّيّة والاجتماعيّة للمجتمع الفلسطينيّ، وهدمها في حرب عام 1948؛ فمن جانب نرى أنّ إحياء اللغة العربيّة وموضعها علامة أساسيّة في تأسيس القوميّة العربيّة الحديثة، في أوساط الشعوب العربيّة، بما يشمل الشعب الفلسطينيّ قبل عام 1948، ومن جانب آخر، أصبح الفلسطينيّون في إسرائيل بعد عام 1948، من دون قاعدة مادّيّة اجتماعيّة تمكّنهم من إنتاج حاجات المجتمع، بالمستويات المادّيّة والرمزيّة والسيميائيّة. كلّ ما بقي للفلسطينيّين هو أنفسهم في سياق أجهزة الدولة الإسرائيليّة؛ في حين تتجلّى هُويّتهم في اللغة العربيّة، تاريخها ومنتجاتها الحاليّة؛ لذلك تمثّلت إحدى الوسائل الرئيسيّة، الّتي نفت بوساطتها أجهزة الدولة الجماعة الوطنيّة الفلسطينيّة في إسرائيل، في مصادرة وسائل الإنتاج السيميائيّة، ولا سيّما اللغة العربيّة ومنتجاتها من الملكيّة الجماعيّة الفلسطينيّة في إسرائيل. في فصول هذا الكتاب، سأصف الطرائق العمليّة الّتي جرت عبرها عمليّات المصادرة، وسأحلّل هذه العمليّات لفحص طبيعة العلاقة بين دولة إسرائيل والفلسطينيّين مواطنيها، ومن ثَمّ سأقترح مداخلة نظريّة لفهم النظام الاجتماعيّ الّذي يحدّد العلاقة بين الدولة وبينهم.

مكّن تسجيل مجموعة الفلسطينيّين كمواطنين في إسرائيل من تجميعهم البنيويّ، والسيطرة عليهم وإدارتهم على نحو ناجع؛ أسهم فصلهم – مجموعةً - عن سائر مواطني الدولة، في إعادة إنتاج الهُويّة الجماعيّة لليهود الصهيونيّين، مالكي الدولة ووسائل الإنتاج السيميائيّة، إضافة إلى تلك المادّيّة.

 

المواطَنة جهاز سيطرة وإدارة، يعمل بوساطة التسجيل البيروقراطيّ الحداثيّ، وهو ليس موجَّهًا إلى مَنْ هم في مجال عمله فحسب، بل أيضًا إلى مَنْ ليس فيه، ويُقصى ويُطرد من منطقة سيادته. مكّن تسجيل مجموعة الفلسطينيّين كمواطنين في إسرائيل من تجميعهم البنيويّ، والسيطرة عليهم وإدارتهم على نحو ناجع؛ أسهم فصلهم – مجموعةً - عن سائر مواطني الدولة، في إعادة إنتاج الهُويّة الجماعيّة لليهود الصهيونيّين، مالكي الدولة ووسائل الإنتاج السيميائيّة، إضافة إلى تلك المادّيّة. على الرغم من ذلك، فإنّ تجميع الفلسطينيّين جماعةً "غير قوميّة" قوّى وطنيّتهم في حقيقة الأمر، على مرّ السنين، وعلى وجه التحديد كردّة فعل مقاومة للمحاولات المؤسّساتيّة من أجهزة الدولة، لتفكيك مزايا جماعيّتهم القوميّة.

إنّ اللغة العربيّة ومنتجاتها تعبير أنموذجيّ عن العلاقات المركّبة، بين الفلسطينيّين الّذين في إسرائيل ودولة إسرائيل، وإنّ مصادرتها بغية تفكيك جماعيّتهم جرت بطرائق استعماريّة حديثة، من خلال أجهزة بيروقراطيّة خاصّة، دولة القوميّة فكّت الرابط بين الفلسطينيّين كجماعة، وعلامة هذه الجماعة، اللغة العربيّة، وعلى سبيل المثال، وضع جهاز التربية الإسرائيليّ الفلسطينيّين تحت إطار جهاز فرعيّ، جهاز التربية العربيّ الّذي يدرّس لغة عربيّة محدّدة، ولنسُق مثالًا آخر: من أجل أن يتحدّث الفلسطينيّ باللغة العربيّة ويُنتج بها؛ كي يتعلّم اللغة العربيّة ومنتجاتها؛ عليه أن يندمج في الأكاديميا الإسرائيليّة ومؤسّساتها. إذا قبلنا افتراض أنّ لدينا مجموعتين قوميّتين إحداهما تسيطر على الأخرى، فهذه حالة كلاسيكيّة من العلاقات الاستعماريّة، لكن إذا افترضنا أنّ لدينا تركيبة، أكثر تعقيدًا من مجرّد علاقات سيطرة جماعة قوميّة على أخرى، وذلك بسبب عمليّات تاريخيّة تربط بين مواقع الصراع، ومواقع اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة قوميّة وعالميّة؛ عندئذٍ سنجد أنّ لدينا النظام الصهيونيّ. إنّ دولة إسرائيل، على طوريها القوميّ والاستعماريّ، جزء من نظام اجتماعيّ اقتصاديّ أوسع منها، له بنية مادّيّة ومؤسّساتيّة خاصّة به، وهي تُدار حسب مبدأ ناظم يمكّنها من العمل بالشكل الّذي هي عليه. يصون النظام الصهيونيّ - إلى حدّ بعيد - دولة إسرائيل وعلاقاتها بالفلسطينيّين بعامّة، وبجماعة الفلسطينيّين مواطنيها بخاصّة.

في سياق حلبة اللغة العربيّة ومنتجاتها في إسرائيل، من الناحية البيروقراطيّة، تصون أجهزة الدولة معظم الفعاليّات اللغويّة العربيّة الخاصّة والعامّة. أمّا أنماط القراءة والكتابة بالعربيّة، فهي اشتقاق من مبنًى عامّ هو النظام الصهيونيّ، الّذي تشكّل أجهزة دولة إسرائيل تعبيرًا إجرائيًّا عنه؛ فمثلًا، في الفصل الثاني من الكتاب، تُعرَض أنماط القراءة والكتابة، الخاصّة بالصهيونيّين والفلسطينيّين، والعلاقة البنيويّة بينها. إنّ هذه الأنماط غير محصورة في المنطقة الجغرافيّة السياديّة لدولة إسرائيل، ولا باليهود بكونهم كذلك، وإنّما هي جزء من النظام الصهيونيّ الفاعل فوق مستوى الدولة، بما هي جهاز سيادة على منطقة جغرافيّة سياسيّة.

إنّ الطرف الّذي ينفّذ عمليّات السيطرة والتفكيك وإعادة ترتيب الجماعة الوطنيّة هو أجهزة الدولة، أمّا النظام الصهيونيّ فمبنًى فوقيّ عامّ للمبادئ الناظمة لهذا الجسم التنفيذيّ؛ أي أجهزة الدولة والدولة ذاتها.

 

لأغراض هذا البحث؛ فإنّ النظام الاجتماعيّ السياسيّ، الّذي يضبط العلاقة بين الفلسطينيّين في إسرائيل ودولة إسرائيل، نظامٌ استعماريّ مبنيّ على سيطرة الحركة الصهيونيّة على الفلسطينيّين باعتبارهم جماعة قوميّة، وذلك عبر أجهزة الدولة والنظام الصهيونيّ العامّ. أمّا علاقات السيطرة هذه فمبنيّة من مستويات عدّة مختلفة لكن مترابطة، وأحدها حلبة اللغة العربيّة ومنتجاتها. إنّ الطرف الّذي ينفّذ عمليّات السيطرة والتفكيك وإعادة ترتيب الجماعة الوطنيّة هو أجهزة الدولة، أمّا النظام الصهيونيّ فمبنًى فوقيّ عامّ للمبادئ الناظمة لهذا الجسم التنفيذيّ؛ أي أجهزة الدولة والدولة ذاتها.

بُحث هذا الإطار لعلاقات السيطرة الاستعماريّة من زوايا عدّة، إلّا أنّ سؤالنا هنا يختصّ بقضيّة اللغة العربيّة ومنتجاتها؛ ومن هنا علينا توضيح الإطار التحليليّ، الّذي سنستخدمه في بحث اللغة العربيّة وحلبتها البنيويّة، وكذلك موقعهما في النظام الاجتماعيّ السياسيّ في دولة إسرائيل.

 

ثانيًا: الحالة السوسيو - لغويّة للفلسطينيّين في إسرائيل

إنّ الحالة السوسيو - لغويّة لمجتمع ما، هي جزء عضويّ من النظام الاجتماعيّ - الاقتصاديّ والسياسيّ الخاصّ به. إنّ حدث الاتّصال في مجتمع ما، على أنواعه المختلفة، هو اشتقاق من نظامه الاجتماعيّ - الاقتصاديّ والسياسيّ، ويترجم إلى المبدأ الناظم لمجاله السوسيو - لغويّ؛ وليتشكّل حدث الاتّصال ويوزّع ويصل إلى جمهوره، ثمّة ضرورة لتوفّر بعض الشروط الأساسيّة المتعلّقة بمرحلة تطوّر المجتمع العينيّ، وسنحدّد نقاشنا هنا لتلك الشروط، المطلوبة لحدث الاتّصال في دولة القوميّة الحديثة؛ إذ سنحاول فحص تحويراتها الاستعماريّة بخاصّة، ومن ثَمّ سنفحص مدى ملاءمة هذا النقاش النظريّ لسياق الفلسطينيّين في إسرائيل، ولحالتهم السوسيو - لغويّة الّتي يشكّل جزء منها بؤرة هذا البحث.

تعمل دولة القوميّة وفق مبدأ يهدف إلى مَعْيَرة (Standardization) الأحداث الاجتماعيّة الحاصلة في مجال سيادتها، وهي مركّبة من جماعات متخيّلة، والمَعْيرة هي الشرط الضروريّ لعمل أجهزة الدولة مع هذه الجماعات وفيها. إنّ مَعْيرة الأحداث الاجتماعيّة تُنجَز بوساطة أجهزة بيروقراطيّة متخصّصة في مجالات نشاطات المجتمع المختلفة، فمثلًا في مجال التربية يُفرض على الجماعة القوميّة مجموعة من الإجراءات البيروقراطيّة، مثل التقسيم حسب الفئات في السنّ. تُفرض هذه المَعْيرة في مجال اللغة ومنتجاتها، وتنظّمها مجالًا منفصلًا بحدود بنيويّة وبقوانين عمل داخليّة. حسب أنموذج دولة القوميّة، تجب إقامة بنية تحتيّة مادّيّة ومؤسّساتيّة خاصّة بمجال اللغة ومنتجاتها؛ كي يكون في وسع إجراءات المَعْيرة أن تُنجز. تشمل هذه البنية منظومة قواعد معياريّة، وجهاز تربية رسميًّا، وأكاديميّة للغة القوميّة المعياريّة، ووسائل اتّصال جماهيريّة مثل الصحافة المطبوعة والإلكترونيّة، ومؤسّسات أدبيّة تشمل دورًا للنشر، وهيمنة تيّار أدبيّ ما، ومسابقات كتابة وتأليف، وقواميس ومعاجم، وجمهور قرّاء، وغيرها.

اللافت أنّ أجهزة الدولة قبلت وظيفة العربيّة الفصحى هذه، وأفردت لها حلبة عمل، وعملت بلا كلل لإعادة صوغ الفصحى بما يتلاءم والعلاقات الاستعماريّة بين الدولة ومواطنيها الفلسطينيّين.

 

تشير الأبحاث إلى أنّ ثمّة تنوّعًا كبيرًا بين الحالات التاريخيّة العينيّة، الّتي حدثت فيها عمليّات تأسيس بنية تحتيّة مادّيّة مؤسّساتيّة لمجال اللغة، حيث إنّ مركّبات البنى التحتيّة تخضع لسياق بنائها الاجتماعيّ السياسيّ العينيّ. ويشير التنوّع في ما بينها إلى الوزن التحليليّ، الّذي علينا أن نعزوه إلى السياق المحدّد تحت البحث، ويثبت أنّ علينا فحص مدى صلة أنموذج دولة القوميّة بكلّ حالة، كما الامتناع عن تطبيقه بصورة آليّة على حالات بحثيّة مختلفة. أضف إلى ذلك أنّ التاريخ الاستعماريّ -  جزئيًّا على الأقل - نتج من مبادرات دول قوميّة أوروبّيّة، بما فيها بناء حقل اللغة ومنتجاتها لدى الشعوب الّتي تقع تحت سيطرتها. هذا التعقيد في التاريخ الاستعماريّ يتطلّب أُطرًا تحليليّة تستطيع مواجهة الاختلاف والتنوّع، وحتّى حالات تنفي أنموذج دولة القوميّة لمَعْيرة مجال اللغة.

إنّ الحالة السوسيو - لغويّة لجماعة الفلسطينيّين في إسرائيل، جزء من النظام الاجتماعيّ – السياسيّ، الّذي يخضعها لأجهزة الدولة كجماعة محتلّة تتعلّق بالمحتلّ؛ من أجل بقائها المادّيّ والاجتماعيّ. إنّ مستويات هذه الحالة، مبنيّة من علاقات السيطرة والإدارة بين أجهزة الدولة وهذه الجماعة، تعمل هذه العلاقات في سياق مادّيّة اللغة العربيّة ومنتجاتها وتاريخها، الّتي تتميّز بصراعات اجتماعيّة وسياسيّة، وذلك بصرف النظر عن سياق العلاقات الاستعماريّة ذاتها، على نحو ما نجد في تعدّد اللهجات في أوساط الفلسطينيّين؛ بناء على متغيّرات طبقيّة ومناطقيّة وغيرها. إنّ تدخّل أجهزة الدولة في الحالة السوسيو - لغويّة ليس متجانسًا، بل يتغيّر حسب تاريخ اللغة ومادّيّتها والتفاعل بينهما، على سبيل المثال، نرى أنّ اللغة العربيّة المحكيّة تطوّرت عبر علاقاتها باللغة العبريّة ومنتجاتها، في سياق مؤسّسات الحكم وقوى السوق، وأساسًا في أماكن العمل. في المقابل، وُجّهت العربيّة الفصحى إلى آفاق إخضاع ومَعْيرة أخرى؛ أي أنّ أجهزة الدولة الإسرائيليّة، وعلى العكس من حالات أخرى، لم تعمل في المجال العامّ على المحور الكلاسيكيّ للغة العربيّة، أي حالة الازدواجيّة اللغويّة (Diglossia) بين اللغة المحكيّة وتلك الفصحى المعياريّة، ولم يحاولوا فرض مستوًى لغويّ معيّن على الفلسطينيّين. من الممكن الادّعاء أنّ أجهزة مختلفة نشطت في اللغة المحكيّة، وأخرى في الفصحى، ولدينا حالة من الانفصال البنيويّ بين "اللغتين"، واللغة اليوميّة هي - في الأغلب - خليط من لهجات ومستويات مختلفة.

في هذا البحث، سنركّز على الأحداث في حقل اللغة العربيّة الفصحى، بكونها علامة الجماعة الوطنيّة الفلسطينيّة في إسرائيل؛ ذلك أنّ الفصحى استُعملت موقعًا لبناء الهُويّة الجماعيّة للقوميّة العربيّة العلمانيّة في الحداثة، وأصبحت ترمز إلى أنواع جماعيّات مختلفة، في فترات شتّى من تاريخ العرب. اللافت أنّ أجهزة الدولة قبلت وظيفة العربيّة الفصحى هذه، وأفردت لها حلبة عمل، وعملت بلا كلل لإعادة صوغ الفصحى بما يتلاءم والعلاقات الاستعماريّة بين الدولة ومواطنيها الفلسطينيّين.

كون بؤرة هذا البحث العربيّة الفصحى، كفضاء تجري فيه عمليّات انبناء مجموعة الفلسطينيّين في إسرائيل، بصفتهم "عرب إسرائيل"، نابعٌ من أسباب ناتجة من بنية ظاهرة البحث ذاتها؛ فمن جانبٍ سنفحص اللغة الوطنيّة لدى مجموعة الفلسطينيّين الخاضعين للأجهزة الاستعماريّة؛ اللغة والأجهزة الاستعماريّة تعمل حسب منطق اللغة الفصحى في هيئتها النصّيّة المطبوعة، ومن الجانب الآخر، نرى أنّ القاعدة الاجتماعيّة - الاقتصاديّة لدولة القوميّة، هي الرأسماليّة الّتي تعمل كمبدأ عامّ ناظم. معنى هذه العلاقة أنّ على منتجات اللغة، كي تصبح قابلة للتداول على المسرح الاجتماعيّ العامّ، عليها أن ترتَّب بناء على قالب النصّ المطبوع؛ وهنا يجب أخذ القراءة والكتابة في الحسبان، من منطلق أنّهما تعبّران عن نوع من الوكالة الاجتماعيّة، الناتجة من سياق رأسماليّة الطباعة، فكما ذكرنا سابقًا، تضطلع القراءة والكتابة بوظيفة النقل بين مجالات وقوًى اجتماعيّة ومجال اللغة؛ ومن هنا فالقراءة والكتابة فعلان مركزيّان في إعادة تشكيل الجماعة القوميّة من جديد، أي في عمليّات مَعْيرة الجماعة المتخيّلة؛ ولذلك سنركّز في العمليّات النصّيّة في المجال العامّ، تلك الّتي تحدث في الحلبة البنيويّة للغة العربيّة الفصحى في إسرائيل، كحلبة بناء الذات الفلسطينيّة الجمعيّة فيها.

أهمّيّة النقد الأدبيّ لبحثنا هذا، تتطلّب التوضيح في هذه المقدّمة؛ إذ قام النقد الأدبيّ بوظائف عدّة مختلفة في الحداثة؛ ففي أنموذج دولة القوميّة، وبالتحديد في مراحل تأسيس أجهزة الدولة، استُخدم النقد الأدبيّ أداةً تربويّة وسيطة، تعلّم جمهور القرّاء كيف عليهم أن يقرؤوا، وكيف على أيّ منهم أن يكتب نصًّا أدبيًّا ونصًّا عامًّا.

 

في هذه الحلبة البنيويّة، نجد أنّ الفعاليّات النصّيّة العامّة متشعّبة، وتشمل استمراريّة (Continuum) واسعة من منابر النشر والتوزيع، ومن أجناس أدبيّة، تميّز هذا المجال في دولة القوميّة. تشمل منابر النشر والتوزيع جهازَ التربية العربيّ، وأكاديميّة اللغة العربيّة، وبرامج "سلطة الإذاعة والتلفزيون" باللغة العربيّة، ودور النشر، والصحف اليوميّة، والمجلّات الثقافيّة الأدبيّة، والمجلّات الأكاديميّة، والجمعيّات المدنيّة، والمؤتمرات، والمسابقات والجوائز. أمّا الأجناس الأدبيّة فتشمل الصحافة اليوميّة، ومقالات الرأي، والمقالات الفكريّة، والقصّة القصيرة، والشعر، والرواية، والنقد الاجتماعيّ الثقافيّ، والنقد الأدبيّ، والمقالات الّتي تتناول اللغة العربيّة ومنتجاتها، والمقالات الّتي تتناول موقف دولة إسرائيل من المشروع القوميّ العربيّ، والأبحاث العلميّة الّتي تتناول المجتمع الفلسطينيّ على جوانبه المختلفة (بما في ذلك اللغة العربيّة)، والرؤى المستقبليّة بشأن الفلسطينيّين في إسرائيل. ولم يكن مؤلّفو هذه الأجناس الأدبيّة مجموعة متجانسة؛ إذ كان منهم مفكّرون فلسطينيّون بقوا بعد حرب عام 1948، ويهود عرب هاجروا إلى إسرائيل، وموظّفون في أجهزة الدولة، ومستشرقون، وخبراء إسرائيليّون، وأكاديميّون فلسطينيّون وإسرائيليّون، وكتّاب وشعراء، وسياسيّون، وناشطون في المجال العامّ. وشكّل هؤلاء وأولئك كلّهم البنية التحتيّة المادّيّة - المؤسّساتيّة للحلبة البنيويّة للغة العربيّة ومنتجاتها.

من المهمّ أن يُشار إلى أنّ هذه البنية تمتلك ديناميّة؛ إذ على مدى الأعوام الّتي يتطرّق إليها هذا البحث، أي منذ عام 1948 حتّى يومنا هذا، مرّت بتغييرات مهمّة عدّة؛ فخلال هذه الأعوام، كان ثمّة فترات، أصبح فيها بعض منابر النشر والتوزيع أهمّ من منابر أخرى؛ فنرى مثلًا في الفترة الّتي تلت عام 1948، حتّى نهاية ستّينات القرن الماضي، كان النقد الأدبيّ يُنشر أساسًا في المجلّات الثقافيّة والأدبيّة، حيث كان هذا الجنس الموقع الفرعيّ الأهمّ، الّذي حصل فيه الصراع، حول شكل العلاقات بين الفلسطينيّين في إسرائيل وأجهزة الدولة. في الفترة الثانية، تقريبًا من عام 1970 حتّى تسعينات القرن الماضي، جرت عمليّة أكدمة عميقة للنقد الأدبيّ، ومنبر النشر والتوزيع بناه أكاديميّون فلسطينيّون، ممّن تعلّموا وعملوا في الأكاديميا الإسرائيليّة، ونشروا مقالات في النقد الأدبيّ، لجمهور القرّاء الفلسطينيّ في إسرائيل، باللغة العربيّة.

أهمّيّة النقد الأدبيّ لبحثنا هذا، تتطلّب التوضيح في هذه المقدّمة؛ إذ قام النقد الأدبيّ بوظائف عدّة مختلفة في الحداثة؛ ففي أنموذج دولة القوميّة، وبالتحديد في مراحل تأسيس أجهزة الدولة، استُخدم النقد الأدبيّ أداةً تربويّة وسيطة، تعلّم جمهور القرّاء كيف عليهم أن يقرؤوا، وكيف على أيّ منهم أن يكتب نصًّا أدبيًّا ونصًّا عامًّا. ادّعينا آنفًا أنّ القراءة والكتابة هما تعبير عن الوكالة الاجتماعيّة، الّتي تترجم القوى الاجتماعيّة وصراعاتها على السيطرة على وسائل الإنتاج وإدارتها؛ من هنا فإنّ النقد الأدبيّ يمكن أن يشكّل ورشة عمل، لبناء الذات الحداثيّة وطرائق عملها، في المجتمع القوميّ الحداثيّ؛ لذا فليس مفاجِئًا أنّ في حلبة اللغة العربيّة ومنتجاتها، كما تبيّن ممّا جُمع من موادّ إمبريقيّة لهذا البحث، يوجد طغيان في المرحلة الأولى للنقد الأدبيّ، ويضاف إلى هذا، أنّ عمليّات التطوّر في هذه الحلبة، أدّت إلى تغييرات في طبيعة النقد الأدبيّ، وفي الأساس إلى أكدمة هذا الجنس الأدبيّ، وخلطه بأجناس أخرى مثل خطاب حقوق الإنسان.

إذن، دولة إسرائيل أقامت أجهزة دولة قوميّة حداثيّة؛ بغية إنشاء البنية المادّيّة - المؤسّساتيّة للحلبة البنيويّة للغة العربيّة ومنتجاتها. هذه الأجهزة الّتي تعمل حسب مبدأ المَعْيرة الّذي يمكّن دولة القوميّة من السيطرة على الجماعات المتخيّلة، الّتي تقع تحت سيادتها ومن إدارتها، نجحوا في تكوين وضع هجين في العلاقات، بين الفلسطينيّين في إسرائيل والدولة ذاتها

 

إذن، دولة إسرائيل أقامت أجهزة دولة قوميّة حداثيّة؛ بغية إنشاء البنية المادّيّة - المؤسّساتيّة للحلبة البنيويّة للغة العربيّة ومنتجاتها. هذه الأجهزة الّتي تعمل حسب مبدأ المَعْيرة الّذي يمكّن دولة القوميّة من السيطرة على الجماعات المتخيّلة، الّتي تقع تحت سيادتها ومن إدارتها، نجحوا في تكوين وضع هجين في العلاقات، بين الفلسطينيّين في إسرائيل والدولة ذاتها؛ فمن جانبٍ عملت هذه الأجهزة على مَعْيرة اللغة العربيّة الفصحى، الّتي تقف في أساس عمليّة بناء ذات "العربيّ الإسرائيليّ"، ومن جانب آخر، أجهزة هذه الحلبة لم تعمل على اللغة العربيّة المحكيّة، بعكس حالات أخرى لدولة القوميّة في السياق الاستعماريّ؛ إذ - في الأغلب - عملت أجهزة أخرى من أجهزة الدولة على تقوية اللهجات، الّتي تفرّق بين فئات مختلفة لدى الفلسطينيّين في إسرائيل؛ ابتغاء تفكيك هُويّتهم الجمعيّة الوطنيّة والقوميّة. إنّ هذا البحث يركّز على حلبة اللغة العربيّة الفصحى ومنتجاتها النصّيّة، في المجال العامّ. في بعض هذه النصوص تطرُّق مباشر إلى قضيّة الازدواجيّة اللغويّة للغة العربيّة، ولا سيّما الحالة السوسيو - لغويّة في أوساط الفلسطينيّين في إسرائيل، لكنّ هذا التطرّق لا يرتقي إلى أجهزة مادّيّة – مؤسّساتيّة، تعمل حسب مبدأ توحيد مستويات اللغة العربيّة ومنتجاتها في إسرائيل. سيمكّننا هذا العرض القصير للنظام الاجتماعيّ، وموقع الحلبة البنيويّة للغة العربيّة ومنتجاتها فيه، من صوغ ظاهرة البحث وسؤاله المركزيّ؛ إذ سيُتطرَّق إليهما في الفصول اللاحقة، بطريقة تحليليّة ومعمّقة أكثر.

 

ثالثًا: مبنى الكتاب

يسعى هذا البحث إلى تناول قضيّة مواقع اللغة العربيّة ومنتجاتها، كحلبة بنيويّة جرت من خلالها عمليّات فحص للعلاقات وإعادة تصميمها بين الفلسطينيّين في إسرائيل من جهة، والدولة والنظام الصهيونيّ من جهة أخرى، منذ عام 1948 حتّى يومنا هذا. إنّ محاولة وصف التاريخ الاجتماعيّ للغة العربيّة الفصحى ومنتجاتها، مبنيّة على الفهم الأساسيّ، الّذي يفيد بأنّ أجهزة الدولة والفلسطينيّين اعتبروا اللغة العربيّة الفصحى، رمزًا للجماعيّة الوطنيّة والقوميّة لدى الفلسطينيّين في إسرائيل، وبناء على ذلك؛ فإنّ مَنْ يسيطر عليها فبإمكانه أن يعيد صوغ هذه الجماعيّة. سنتناول، من هذا المنطلق، منتجات العربيّة الفصحى، الّتي أُنتجت في مواقع مختلفة داخل الحلبة المخصّصة لها، والّتي استهلكها جمهور القرّاء الفلسطينيّ في إسرائيل. هذه المنتجات نصوص قابلة للتبادل داخل أجهزة الدولة والفلسطينيّين فيها؛ وبذا فإنّ الوكالة الاجتماعيّة ذات الصلة في هذا السياق، هي طرائق قراءتها وكتابتها. وبغية فحص القضيّة المركزيّة في هذا البحث؛ سنفحص النصوص ذاتها في شكلها المتداول في المجال العامّ، وذلك بما هي حدث اتّصال، يتيح طريقة محدّدة في القراءة والكتابة. والكتاب مبنيّ حول أربعة محاور رئيسيّة، صيغت في شكل فصل لكلّ محور.

يتطرّق الفصل الأوّل إلى قضيّة التاريخ البنيويّ، لاستعمال الفلسطينيّين في إسرائيل اللغة العربيّة الفصحى ومنتجاتها. سنحاول في هذا الفصل تتبّع الشروط البنيويّة، الّتي تمكّن الفلسطينيّين من القراءة والكتابة في إسرائيل، في أعقاب الحدث المؤسّس لهم؛ أي النكبة. وأدّت المأساة الفلسطينيّة في عام 1948 إلى أنّ الفلسطينيّين فقدوا قدرتهم على الفقدان؛ وبهذا سُلب منهم إمكان تشكيل جماعيّة ما. من الجانب الآخر، كان ثمّة إغلاق لبنية قراءة وكتابة صهيونيّة محدّدة مبنيّة على الفائض، وتُحتّم على كلّ حدث أن يُقرأ وأن يُكتب من جديد، حسب علاقته بالمشروع الصهيونيّ، وأدّت هذه العلاقات البنيويّة لشروط إمكان القراءة والكتابة، إلى تطوير طريقة قراءة وكتابة فلسطينيّة قهريّة، قراءة وكتابة تكراريّة ملتصقة بجسد فائض القراءة والكتابة الصهيونيّة؛ من أجل أن ينجح الفلسطينيّون في إسرائيل في البقاء جماعة. والعلاقات البنيويّة بين طريقتَي القراءة والكتابة، الفائضة والقهريّة، قائمة داخل حلبة اللغة العربيّة الفصحى ومنتجاتها؛ الحلبة الّتي بنتها دولة إسرائيل من خلال أجهزتها الحداثيّة. إنّ هذه الحلبة البنيويّة الّتي سنصطلح عليها بـ "العربيّة"، مبنيّة من ثلاث طبقات رئيسيّة: البنية المادّيّة - المؤسّساتيّة، والعلامة كقيمة قابلة للتبادل، وتفعيل العلامة مبدأ ناظمًا في هيئة تشكيل خطابيّ في واقع أحداث الاتّصال المختلفة، الّتي تحصل داخل الحلبة و/ أو بعلاقة ما بها. في المحور الأفقيّ، "العربيّة" مركّبة من مواقع بنيويّة متعدّدة، وهي تحويرات مختلفة على علاقات الفلسطينيّين في إسرائيل بالدولة، أمّا شبكة هذه المواقع وعلاقاتها، فترسم صورة "العربيّة" في كلّ فترة معطاة.

وُجدت ثلاثة مواقف أساسيّة تستخدم النقد الأدبيّ في حلبة الفصحى: الأوّل كان موقف أجهزة الدولة، الّذي كان يعبَّر عنه من خلال قراءة الخبراء المستشرقين على أنواعهم المختلفة وكتابتهم. الجزء الأكبر من هذا الموقف كان يُنشر في صحيفة اليوم.

 

سنحاول في الفصول الثلاثة الأخرى رسم صورة "العربيّة"، في الفترات المختلفة من تاريخها الاجتماعيّ. في الفصل الثاني، سنتناول صورة "العربيّة" في الفترة الّتي بدأت في أواخر عام 1948، وكانت نهايتها في أواخر العقد السادس من القرن العشرين، في هذه الفترة الأولى من حياة "العربيّة" في المجال العامّ، كان ثمّة ثلاث مجلّات عملت كمنابر رئيسيّة لنشر النقد الأدبيّ. هذا الجنس الأدبيّ تطلّب نوعًا محدّدًا من القراءة والكتابة بالعربيّة الفصحى، ودعا إلى جماعيّة وطنيّة في أوساط الفلسطينيّين في إسرائيل. في ذلك الوقت، وُجدت ثلاثة مواقف أساسيّة تستخدم النقد الأدبيّ في حلبة الفصحى: الأوّل كان موقف أجهزة الدولة، الّذي كان يعبَّر عنه من خلال قراءة الخبراء المستشرقين على أنواعهم المختلفة وكتابتهم. الجزء الأكبر من هذا الموقف كان يُنشر في صحيفة اليوم، لكن لكون النقد الأدبيّ حينذاك في مراحل تطوُّره الأولى؛ تطوَّر من على صفحات مجلّة الشرق الجديد، على أنّه نوع من ورشة عمل، يكتسب من خلالها هؤلاء الخبراء والمستشرقون، مهارات وأساليب في النقد الأدبيّ. ومنذ صدور العدد الأوّل من هذه المجلّة، جرى وضع المعايير الواضحة لما هو مطلوب من الفلسطينيّين: إعلان حدّ أدنى من الولاء لدولة إسرائيل، وقطع العلاقات الاجتماعيّة والثقافيّة بتاريخ الثقافة العربيّة الإسلاميّة العامّة. أمّا الموقف الثاني في هذه الفترة، فمثّلته مجلّة الجديد، وهي من منشورات "الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ" الرئيسيّة، وسنتمحور في مقالات إميل توما، وهو من أهمّ المفكّرين الفلسطينيّين الّذين نشطوا قبل مأساة عام 1948 وبعدها. وحسب توما، فمن أجل تحقيق هدف إعادة تعريف جماعتهم الوطنيّة والقوميّة؛ على الفلسطينيّين العودة والتموضع داخل "العربيّة" من جديد، وامتلاك وسائل الإنتاج الرمزيّة والسيميائيّة للغة العربيّة الفصحى. أمّا الموقف الثالث، فمثّلته مجلّة المجتمع، بقيادة مؤسّسها ميشيل حدّاد، الّذي نادى مع مجموعة الفلسطينيّين الّتي تجمّعت حوله؛ لتلك العودة والتموضع في حلبة العربيّة الفصحى، الّتي تقبل الشروط الّتي وضعتها دولة إسرائيل للفلسطينيّين - الولاء للدولة، والانفصال عن تاريخ الثقافة العربيّة الإسلاميّة - وذلك من خلال إعادة إنتاج الفلسطينيّ بوصفه "ابن إسرائيل"، حسب خطاب حدّاد. وكانت هذه المواقف الثلاثة في حالة من الاتّصال في ما بينها، على مدى العقد الّذي تلا أحداث 1948؛ هذا ممّا بنى استمراريّة بنيويّة لـ "العربيّة" في المرحلة الأولى، والديناميّة الثنائيّة بين المواقف المختلفة صاغت هذه العلاقات البنيويّة، الّتي تقف في أساس "العربيّة".

يعالج الفصل الثالث الفترة الّتي مرّ بها النقد الأدبيّ بالفصحى، الموجَّه إلى جمهور القرّاء الفلسطينيّ في إسرائيل، بعمليّات أكدمة (Academization). سندّعي أنّ هذه العمليّات أنتجت من جديد موقع الوسيط داخل "العربيّة"؛ وهكذا أسهمت في إعادة صوغ ديناميّاتها الداخليّة، كما في حلبات أخرى في أجهزة الدولة. إنّ الحوامل التاريخيّة لهذه العمليّات هم مجموعة الأكاديميّين الفلسطينيّين، الّذين درسوا في جهاز التربية العربيّ في إسرائيل، وأكملوا دراساتهم في "الأكاديميّة الإسرائيليّة"، وعمل بعضهم فيها بوظائف رسميّة. من أهمّ الشخصيّات الفاعلة في عمليّات أكدمة النقد الأدبيّ بالفصحى، في هذه الفترة، محمود غنايم الّذي سنفحص مدوّنته في النقد الأدبيّ، الّتي تناولت الأدب الفلسطينيّ في إسرائيل، ووُجّهت إلى جمهور القرّاء الفلسطينيّ فيها، عبر نشرها في المجلّات الأدبيّة التابعة للبنية المادّيّة - المؤسّساتيّة لـ "العربيّة"، ودرَس غنايم في قسم "اللغة العربيّة وآدابها" في "جامعة تل أبيب"، وأكمل بحثَي الماجستير والدكتوراة بإشراف ساسون سوميخ، ومن مقارنة جسدَي المعرفة لكلّ منهما، تبيّن لنا أنّ غنايم هو في الحقيقة نوع من محاكاة المستعمَر للهيئة الفكريّة للمستعمِر، وعلى وجه التحديد في قضيّة تحديث اللغة العربيّة الفصحى ومنتجاتها، في أوساط الفلسطينيّين في إسرائيل.

سنركّز في الفصل الرابع على لحظة التحوّل، الّتي حصلت في بداية تسعينات القرن الماضي، والّتي عُبّر عنها اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، بالمستويين العالميّ والمحلّيّ على السواء. أمّا من ناحية "العربيّة"، فكان ثمّة عمليّتان متوازيتان، مزيّتهما الرئيسيّة المطالَبة باحتكار اللغة العربيّة ومنتجاتها في دولة إسرائيل، هذه المطالَبة لم تكن قائمة بهذه الطريقة (الاحتكار). وبدأ التغيير في المستوى المادّيّ - المؤسّساتيّ لـ "العربيّة"؛ إذ لوحظ ازدياد ملحوظ بكَمّ منظّمات المجتمع المدنيّ، الّتي بادرت إلى مشروعات ترمي إلى تحسين مكانة اللغة العربيّة الفصحى ومنتجاتها في إسرائيل، وعلى وجه التحديد في أوساط الفلسطينيّين مواطني إسرائيل. وفي الوقت ذاته، أدّت عمليّات الأكدمة في الفترة السابقة، إلى مبادرة مجموعة من المثقّفين الفلسطينيّين؛ لإقامة مَجمع لغة عربيّة في إسرائيل في عام 1989، وأثمرت هذه العمليّات بعد عقدين من الزمن، في عام 2007، بسَنّ قانون "مَجمع اللغة العربيّة"، الّذي يشبه إلى حدّ بعيد قانون "مَجمع اللغة العبريّة"، الّذي سُنّ في عام 1953؛ وبهذا تشكّلت استمراريّة جديدة من المواقع داخل "العربيّة"؛ حين يقترح كلٌّ منها طريقًا مختلفة من العودة والتموضع، في مقابل اللغة العربيّة الفصحى ومنتجاتها. وتطوّرت الديناميّة بين المواقع المختلفة في "العربيّة" الراهنة، عبر تشكيلات خطابيّة مهنيّة تعتمد الخبرة والاختصاص، وتطالب باحتكار شامل لكلّ مجال اللغة العربيّة الفصحى ومنتجاتها، وليس على حدث بعينه و/ أو على سلسلة من الأحداث الاتّصاليّة، على العكس ممّا كان في الفترات السابقة. بعض هذه المواقع - مثل المجمَع - يطالب بالاحتكار على الطريقة القهريّة، بينما يوجد جزء آخر يحاول التحرّر من القهريّة، والمطالبة بملكيّة فائض وطنيّ فلسطينيّ.

هنا سنعود إلى قضيّة الراوي أو الباحث. هذا الموقع هو قراءة كتابة نافية للإمكانات، الّتي تقترحها أجهزة الدولة للفلسطينيّين جماعة، أمّا الباحث فهو مجموع أفعال النفي هذه، إلّا أنّ القدرة على النفي التحليليّ، لا تحمل في داخلها بالضرورة "ديالكتيك" التحرير؛ بل تشير إلى الطريق إليه فحسب

 

بعد أن نستخلص في فصول الكتاب كلّها، مزايا الفترات المختلفة من التاريخ الاجتماعيّ لـ "العربيّة"، سنحلّل في الخاتمة المبنى السرديّ العامّ، الّذي يضبط "العربيّة"، وسنفحص الخيوط التحليليّة الّتي تربط بين الفترات المختلفة وصور "العربيّة" المتعدّدة. في هذه المرحلة من البحث، لن يكون هدفنا استخلاص الأنماط السرديّة لعلاقات الفلسطينيّين في إسرائيل بالدولة والنظام الصهيونيّ، عبر مواقع النظر الّتي تمنحها إيّانا "العربيّة" وتاريخها الاجتماعيّ. ومن دون أن نقلّل من أهمّيّة هذا السرد التاريخيّ، سنحاول أن نقرأ ونكتب عبره الاحتمالات الكامنة فيه؛ لتحويل الورطة البنيويّة "العربيّة". إنّ هذه الورطة، المستعمَر والمستعمِر، أنماط وكالة الفائض والقهريّ، الصراع غير القابل للحلّ بشأن ملكيّة وسائل إنتاج الجماعة، هي المركز الناظم للسرد التاريخيّ.

في هذه المقدّمة افتتحنا قصّة "العربيّة"، وحدّدنا سيرة الحلبة البنيويّة الّتي تعمل على إعادة صوغ العلاقات، بين الفلسطينيّين في إسرائيل والنظام الصهيونيّ. ستمرّ الرحلة في مسالك سيرة "العربيّة" بأربع محطّات رئيسيّة؛ لتصل إلى محطّة خامسة لمّا تتحقّق بعد. هنا سنعود إلى قضيّة الراوي أو الباحث. هذا الموقع هو قراءة كتابة نافية للإمكانات، الّتي تقترحها أجهزة الدولة للفلسطينيّين جماعة، أمّا الباحث فهو مجموع أفعال النفي هذه، إلّا أنّ القدرة على النفي التحليليّ، لا تحمل في داخلها بالضرورة "ديالكتيك" التحرير؛ بل تشير إلى الطريق إليه فحسب. هكذا أيضًا المحطّة الّتي لمّا تتحقّق بعد: يجب بدايةً تعبيد الطريق إليها، كما فعل ذلك الحكيم الّذي رأى الحقيقة؛ عبر المشي في الطريق إليها.

 

 

إسماعيل ناشف

 

باحث جامعيّ وأستاذ مشارك في "معهد الدوحة للدراسات العليا". ناقد أدبيّ وفنّيّ، شارك في تأسيس مشاريع ثقافيّة وفكريّة مختلفة بأطر جامعيّة وعامّة. يهتمّ بدراسة اللغة والأيديولوجيا والتشكيل الأدبيّ والفنّيّ وعلم الجمال، وبالسياق الاستعماريّ عمومًا، والعربيّ - الإسلاميّ والفلسطيني خصوصًا. ممّا صدر له: "صور موت الفلسطينيّ"، و"العتبة في فتح الإبستيم"، و"معماريّة الفقدان: سؤال الثقافة الفلسطينيّة المعاصرة".